ضرورة الاستبداد المؤقت- قراءة في فلسفة ميكافيللي لإصلاح الدول المضطربة
المؤلف: صدقة يحيى فاضل10.06.2025

في زاويته الأسبوعية المعهودة بجريدة «المدينة»، أبدع أخي وصديقي الدكتور سهيل حسن قاضي بمقال سياسي قيم ومثير للتفكير، كعادته في معالجة القضايا الجوهرية بأسلوب رشيق. لقد حفزني مضمون مقاله هذا إلى تسليط بعض الضوء عليه، وذلك تعميمًا للفائدة التي يبدو أن فضيلته كان يصبو إليها. (صحيفة المدينة: العدد 11/ 8/ 1446هـ، 10/ 2/ 2025م). تناول المقال آراء المفكر السياسي الإيطالي الذائع الصيت "نيقولاي ميكافيللي" (1469- 1527م) حول سبل إصلاح الدول التي تعاني من الاضطرابات وعدم الاستقرار السياسي، على غرار بعض الدول العربية في الوقت الراهن. نظرًا لأهمية ما طرحه الدكتور قاضي وجدوى آراء ميكافيللي، فإننا نسعى لإلقاء نظرة فاحصة على جوهر هذا المقال المتميز.
يرى ميكافيللي أن الاستبداد السياسي، على الرغم من كونه مدمرًا، إلا أنه قد يكون ضروريًا وحتميًا في بعض الظروف الاستثنائية. وعلى رأس هذه الظروف ثلاث حالات محددة: الحالة الأولى هي تأسيس دولة من العدم، والحالة الثانية هي إنقاذ دولة من خطر الانهيار الوشيك، أما الحالة الثالثة فهي إصلاح دولة موبوءة بالفساد المستشري. هذا المبدأ هو ما شدد عليه ميكافيللي في كتابه الشهير "الأمير" الذي صدر عام 1515 م، حيث حث أمير فلورنسا على تبني الاستبداد واتخاذ جميع التدابير الممكنة لتوحيد إيطاليا بكل أطيافها وفئاتها، وإقامة دولة إيطالية قوية تنافس الدول الأوروبية العريقة في ذلك العصر.
تلك كانت الرسالة الجوهرية التي أراد ميكافيللي إيصالها في كتابه "الأمير"... فهو يتوق إلى دولة قوية ونافذة، يسعى أميرها بدأب لتشكيلها، معتمدًا في ذلك على مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، وهو الشعار الذي اشتهر به. يرى ميكافيللي أن السياسي المحنك يلجأ لتحقيق مراده وغايته إلى أي وسيلة ممكنة، طالما أن اللجوء إليها ضروري لتحقيق الهدف المنشود، حتى لو تعارضت تلك الوسيلة مع الأخلاقيات والقيم النبيلة المتعارف عليها. وبالتالي، يجب على السياسي أن يتبنى، دون أدنى تردد، جميع الوسائل التي من شأنها أن تحقق غاياته. هذه الجزئية بالذات من فكر ميكافيللي هي جوهر المبدأ الانتهازي الذي ارتبط اسمه به على مر العصور… حتى باتت كلمة "الميكافيللية" تعني "الانتهازية" في نظر البعض…
لكن ميكافيللي عاد وتغنى، في كتابه اللاحق الذي صدر عام 1521م تحت عنوان "المطارحات"، بالديمقراطية (حكم الأغلبية)... مع تأكيده الدائم على أن الديكتاتورية الاستبدادية هي كارثة محققة، إلا أنها تبقى ضرورية في الحالات الثلاث التي ذكرتها سابقًا. أما في حالة صلاح الدولة وعودة الأمور إلى نصابها، واستعادة الاستقرار والوضع الطبيعي المقبول، فإن الديمقراطية هي الخيار الأمثل والضامن للاستقرار السياسي والازدهار الحضاري على المدى البعيد، وذلك من وجهة نظره. وبالتالي، يمكننا القول بأنه لم يدعُ إلى الحكم المطلق إلا في ظل ظروف استثنائية محددة.
ربما يكون من المستحسن التذكير بهذا الجانب الهام من الفلسفة الميكافيللية (التي تحولت بعض جوانبها إلى نظريات علمية معتمدة) عند تحليل الوضع السياسي الراهن في بعض الدول العربية التي تعاني من الاضطرابات في الوقت الحالي (وخاصة: سوريا، اليمن، العراق، ليبيا، وغيرها). من المهم التأمل مليًا في الحلول الممكنة، و"الحل الأمثل" لهذه المعضلة السياسية الخطيرة التي تواجه هذه الدول الآن... (صراعات، عدم استقرار، تفكك، تدخلات أجنبية مغرضة، غياب للأمن... وفوضى عارمة)... لقد حولت هذه الأوضاع حياة شعوب هذه البلدان إلى جحيم لا يطاق.
في الغالب، لن نجد أفضل من وصفة ميكافيللي، لا سيما وأن الحالات الثلاث التي أشار إليها قد تجسدت بالفعل في هذه الدول في الوقت الحاضر. وقد نشأت ضرورة حتمية لوجود "قادة" أقوياء مستبدين (ينفردون بالسلطة) لتجاوز الأزمة التي تعصف بهذه الدول. كأن ينهض قائد، أو حزب وطني مخلص، في كل من هذه الدول، ويستولي على السلطة، ويعيد الأمن والاستقرار إلى ربوع هذه البلاد التي عانت الأمرّين منذ اندلاع ما سمي بـ "الربيع العربي" في عام 2011م. وتتضمن هذه الهبة تجاوز الخلافات الطائفية والمذهبية بشكل مؤقت، وذلك حتى يستقر البلد، وتبدأ العملية السياسية التي تضمن، في نهاية المطاف، حصول كل ذي حق على حقه، وفق دستور جديد ومقبول من الجميع.
لنأخذ ليبيا كمثال حي على هذه الحالة التي نتناولها هنا. لقد ثار شعبها الأبي على الديكتاتور الليبي الفاسد معمر القذافي، في يوم 17/ 2/ 2011م، مطالبًا بحقوقه التي سلبها القذافي لأكثر من أربعين عامًا. وبعد التخلص من ذلك المستبد، سقطت ليبيا في أتون الفوضى والخلافات وشراك الاضطرابات، ولهيب الحروب الأهلية المدمرة، كما هو معلوم للجميع. هنا تجلت الحاجة الماسة إلى من يقتحم هذا المشهد المضطرب، ويمسك بزمام السلطة بقبضة من حديد، ويمنع تشرذم البلاد وتمزقها. ثم يشرع بعد ذلك مباشرة في نقل بلاده إلى بر الأمان، وفق الإجراءات والخطوات السياسية اللازمة في هذه الظروف العصيبة.
إذن، يجب على هذا الديكتاتور الجديد (المنقذ) أن يكون "مصلحًا"... ليحظى بالتقدير والثناء ويخلده تاريخ بلاده. يجب ألا يكون شبيهًا بمعظم المستبدين في عالم اليوم وعالم الماضي، بل عليه أن يعيد الأمن والاستقرار والمؤسساتية إلى ليبيا، ثم يتيح للشعب فرصة اختيار السلطتين التنفيذية والتشريعية في حكومته، وفق الدستور المتفق عليه. أما إذا لم يكن صالحًا ومصلحًا، وتمسك بالسلطة بالقوة والعنف، فسيكون الشعب الليبي، في هذه الحالة، قد ثار على ديكتاتور، ليقع في قبضة ديكتاتور آخر أشد منه بطشًا. وسيعود إلى ليبيا عدم الاستقرار السياسي المقنع والظاهر. وسينشأ صراع جديد بين غالبية هذا الشعب و"معمر قذافي" جديد... وغالبًا ما ستندلع ثورة شعبية جديدة ضد المستبد لاحقًا... وتدخل ليبيا من جديد في دوامة الفوضى القاتلة... لذلك، فإن اشتراط أن يكون الديكتاتور الجديد "مصلحًا" هو شرط أساسي وضروري وحيوي في وضع ليبيا، وفي الدول المشابهة لها.
وكان من الممكن الاستفادة من هذه الرؤية القيمة وتنفيذ هذا السيناريو – مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة في بعض التفاصيل – في كل من سوريا واليمن، وغيرهما من الدول التي تعاني من الأزمات. هذا فيما يخص الجانب النظري. أما إذا لم يتوفر هذا النوع من الحكم بشكل مؤقت في الواقع الملموس، فقد يتغلب الشر، ويسود الجنون، وتنتصر المصالح الشخصية والفئوية الضيقة. ونتيجة لذلك، ستعم الفوضى المدمرة، وتسحق الشعوب. وهذا ما لا يرضاه المواطنون المخلصون، بل وكل الخيرين ومحبي السلام في كل أنحاء العالم.
يرى ميكافيللي أن الاستبداد السياسي، على الرغم من كونه مدمرًا، إلا أنه قد يكون ضروريًا وحتميًا في بعض الظروف الاستثنائية. وعلى رأس هذه الظروف ثلاث حالات محددة: الحالة الأولى هي تأسيس دولة من العدم، والحالة الثانية هي إنقاذ دولة من خطر الانهيار الوشيك، أما الحالة الثالثة فهي إصلاح دولة موبوءة بالفساد المستشري. هذا المبدأ هو ما شدد عليه ميكافيللي في كتابه الشهير "الأمير" الذي صدر عام 1515 م، حيث حث أمير فلورنسا على تبني الاستبداد واتخاذ جميع التدابير الممكنة لتوحيد إيطاليا بكل أطيافها وفئاتها، وإقامة دولة إيطالية قوية تنافس الدول الأوروبية العريقة في ذلك العصر.
تلك كانت الرسالة الجوهرية التي أراد ميكافيللي إيصالها في كتابه "الأمير"... فهو يتوق إلى دولة قوية ونافذة، يسعى أميرها بدأب لتشكيلها، معتمدًا في ذلك على مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، وهو الشعار الذي اشتهر به. يرى ميكافيللي أن السياسي المحنك يلجأ لتحقيق مراده وغايته إلى أي وسيلة ممكنة، طالما أن اللجوء إليها ضروري لتحقيق الهدف المنشود، حتى لو تعارضت تلك الوسيلة مع الأخلاقيات والقيم النبيلة المتعارف عليها. وبالتالي، يجب على السياسي أن يتبنى، دون أدنى تردد، جميع الوسائل التي من شأنها أن تحقق غاياته. هذه الجزئية بالذات من فكر ميكافيللي هي جوهر المبدأ الانتهازي الذي ارتبط اسمه به على مر العصور… حتى باتت كلمة "الميكافيللية" تعني "الانتهازية" في نظر البعض…
لكن ميكافيللي عاد وتغنى، في كتابه اللاحق الذي صدر عام 1521م تحت عنوان "المطارحات"، بالديمقراطية (حكم الأغلبية)... مع تأكيده الدائم على أن الديكتاتورية الاستبدادية هي كارثة محققة، إلا أنها تبقى ضرورية في الحالات الثلاث التي ذكرتها سابقًا. أما في حالة صلاح الدولة وعودة الأمور إلى نصابها، واستعادة الاستقرار والوضع الطبيعي المقبول، فإن الديمقراطية هي الخيار الأمثل والضامن للاستقرار السياسي والازدهار الحضاري على المدى البعيد، وذلك من وجهة نظره. وبالتالي، يمكننا القول بأنه لم يدعُ إلى الحكم المطلق إلا في ظل ظروف استثنائية محددة.
ربما يكون من المستحسن التذكير بهذا الجانب الهام من الفلسفة الميكافيللية (التي تحولت بعض جوانبها إلى نظريات علمية معتمدة) عند تحليل الوضع السياسي الراهن في بعض الدول العربية التي تعاني من الاضطرابات في الوقت الحالي (وخاصة: سوريا، اليمن، العراق، ليبيا، وغيرها). من المهم التأمل مليًا في الحلول الممكنة، و"الحل الأمثل" لهذه المعضلة السياسية الخطيرة التي تواجه هذه الدول الآن... (صراعات، عدم استقرار، تفكك، تدخلات أجنبية مغرضة، غياب للأمن... وفوضى عارمة)... لقد حولت هذه الأوضاع حياة شعوب هذه البلدان إلى جحيم لا يطاق.
في الغالب، لن نجد أفضل من وصفة ميكافيللي، لا سيما وأن الحالات الثلاث التي أشار إليها قد تجسدت بالفعل في هذه الدول في الوقت الحاضر. وقد نشأت ضرورة حتمية لوجود "قادة" أقوياء مستبدين (ينفردون بالسلطة) لتجاوز الأزمة التي تعصف بهذه الدول. كأن ينهض قائد، أو حزب وطني مخلص، في كل من هذه الدول، ويستولي على السلطة، ويعيد الأمن والاستقرار إلى ربوع هذه البلاد التي عانت الأمرّين منذ اندلاع ما سمي بـ "الربيع العربي" في عام 2011م. وتتضمن هذه الهبة تجاوز الخلافات الطائفية والمذهبية بشكل مؤقت، وذلك حتى يستقر البلد، وتبدأ العملية السياسية التي تضمن، في نهاية المطاف، حصول كل ذي حق على حقه، وفق دستور جديد ومقبول من الجميع.
لنأخذ ليبيا كمثال حي على هذه الحالة التي نتناولها هنا. لقد ثار شعبها الأبي على الديكتاتور الليبي الفاسد معمر القذافي، في يوم 17/ 2/ 2011م، مطالبًا بحقوقه التي سلبها القذافي لأكثر من أربعين عامًا. وبعد التخلص من ذلك المستبد، سقطت ليبيا في أتون الفوضى والخلافات وشراك الاضطرابات، ولهيب الحروب الأهلية المدمرة، كما هو معلوم للجميع. هنا تجلت الحاجة الماسة إلى من يقتحم هذا المشهد المضطرب، ويمسك بزمام السلطة بقبضة من حديد، ويمنع تشرذم البلاد وتمزقها. ثم يشرع بعد ذلك مباشرة في نقل بلاده إلى بر الأمان، وفق الإجراءات والخطوات السياسية اللازمة في هذه الظروف العصيبة.
إذن، يجب على هذا الديكتاتور الجديد (المنقذ) أن يكون "مصلحًا"... ليحظى بالتقدير والثناء ويخلده تاريخ بلاده. يجب ألا يكون شبيهًا بمعظم المستبدين في عالم اليوم وعالم الماضي، بل عليه أن يعيد الأمن والاستقرار والمؤسساتية إلى ليبيا، ثم يتيح للشعب فرصة اختيار السلطتين التنفيذية والتشريعية في حكومته، وفق الدستور المتفق عليه. أما إذا لم يكن صالحًا ومصلحًا، وتمسك بالسلطة بالقوة والعنف، فسيكون الشعب الليبي، في هذه الحالة، قد ثار على ديكتاتور، ليقع في قبضة ديكتاتور آخر أشد منه بطشًا. وسيعود إلى ليبيا عدم الاستقرار السياسي المقنع والظاهر. وسينشأ صراع جديد بين غالبية هذا الشعب و"معمر قذافي" جديد... وغالبًا ما ستندلع ثورة شعبية جديدة ضد المستبد لاحقًا... وتدخل ليبيا من جديد في دوامة الفوضى القاتلة... لذلك، فإن اشتراط أن يكون الديكتاتور الجديد "مصلحًا" هو شرط أساسي وضروري وحيوي في وضع ليبيا، وفي الدول المشابهة لها.
وكان من الممكن الاستفادة من هذه الرؤية القيمة وتنفيذ هذا السيناريو – مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة في بعض التفاصيل – في كل من سوريا واليمن، وغيرهما من الدول التي تعاني من الأزمات. هذا فيما يخص الجانب النظري. أما إذا لم يتوفر هذا النوع من الحكم بشكل مؤقت في الواقع الملموس، فقد يتغلب الشر، ويسود الجنون، وتنتصر المصالح الشخصية والفئوية الضيقة. ونتيجة لذلك، ستعم الفوضى المدمرة، وتسحق الشعوب. وهذا ما لا يرضاه المواطنون المخلصون، بل وكل الخيرين ومحبي السلام في كل أنحاء العالم.